الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فقال: لَعَلِّيَ ثم قال: أَنْ يَتَنَدَّمَ فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ، فترك المتكلم؛ إذ التقدير: لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً.وقال آخر: الطويل: فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ.وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء: أنه إذا ذكر اسمٌ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول، وأخبر عن الثاني؛ نحو: إنَّ زَيْدًا وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ، المعنى: إن أخت زيدٍ منطلقةٌ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت الأول ليسا من هذا الضَّرب، وإنما الذي أورده شبيهًا بهذا الضرب.قوله: الوافر: وأنكر المبرد والزجاج ذلك؛ قالا: لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله.الثاني: أنَّ له خبرًا اختلفوا فيه على وجوه:أحدها: أنه {يَتَرَبَّصْنَ}، ولابد من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبرًا عن الأول؛ لخلوِّها من الرابط، والتقدير: وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه.والتقدير: يتربَّصن بعدهم، أو بعد موتهم، قاله الأخفش.وثالثها: أنَّ {يَتَرَبَّصْنَ} خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقدير: أزواجهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل، قاله المبرِّد.ورابعها: أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ، تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون، ويكون قوله: {يَتَرَبَّصْنَ} جملةً مبيِّنَةً للحكم، ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإعراب، ويعزى هذا لسيبويه.قال ابن عطيَّة: وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى: {وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ}، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ، نحو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38] {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] وهذه الآية فيها معنى الأمر، لا لفظه، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر.وخامسها: أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقدير: {وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ} فحذف {أَزْوَاجُهُمْ} بجملته، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ.وقال القرطبيُّ: المعنى: والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ {وَيَذَرُونَ}- أي: يتركون- {أَزْوَاجًا}- أي: ولهم زوجاتٌ- فالزَّوجات {يَتَرَبَّصْنَ} قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ؛ قال تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار} [الحج: 72] أي هو النَّار.وقرأ الجمهور {يُتَوَفَّوْنَ} مبنيًّا لما لم يسمَّ فاعله، ومعناه: يموتون ويقبضون؛ قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42]، وأصل التوفي أخذ الشيء وافيًا كاملًا، فمن مات، فقد وجد عمره وافيًا كاملًا.وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه ورواها المفضَّل عن عاصم- بفتح الياء على بنائه للفاعلن ومعناه: يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ، قاله الزمخشريُّ.ويُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازةٍ، فقال له رجلٌ: من المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: الله، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه على أن أمره بوضع كتابٍ في النَّحو.وقد تقدَّم البحث في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] وهل {بِأَنْفُسِهِنَّ} تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ {قُرُوء} على الظرف، أو المفعوليَّة؟ وهو جارٍ ها هنا.قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من مرفوع {يتَوَفَّوْنَ} والعامل فيه محذوفٌ، تقديره: حال كونهم منكم، و{مِنْ} تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج هاهنا.
والثالث: أنَّ المعدود مذكَّرٌ وهو الأيام، وإنما حذفت التاء؛ لأنَّ المعدود المذكر، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده؛ قالوا صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّام، وإذا حذف لفظًا، جاز في العدد الوجهان: ذكر التاء وعدمها، حكى الكسائيُّ: صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْسًا، ومنه الحديث: وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ، وقال الشاعر: الطويل: نصَّ النحويون على ذلك.قال أبو حيَّان: فَلا يُحْتَاجُ إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد؛ كما قدَّره الزَّمخشريُّ والمُبَرِّد على هذا، قال: وإذا تقرر هذا، فجاء قوله: {وَعَشْرًا} على أحد الجازئين، وإنما حسن حذف التاء هنا؛ لأنه مقطع كلام، فهو شبيهُ بالفواصل؛ كما حسَّن قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْرًا} [طه: 103] كونه فاصلةً، فقوله: ولو ذَكَّرْتَ لَخَرجْتَ من كَلاَمِهِمْ ليس كما ذكر، بل هو الأفصح، وفائدة ذكره {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْمًا} بعد قوله: و{إِلاَّ عَشْرًا} أنه على زعمه أراد الليالي، والأيام داخلةٌ معها، فقوله: {إِلاَّ يَوْمًا} دليلٌ على إرادةِ الأيَّام.قال أبو حيان: وهذا عندنا يدلُّ على أنَّ المراد بالعشر الأيَّام؛ لأنهم اختلفوا في مدَّة اللَّبث، فقال بعضهم: {عَشْرًا} وقال بعضهم: يَوْمًا فدلَّ على أنَّ المقابل باليوم إنما هو أيام؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم: عَشْرُ لَيَالٍ، فيقول البعضُ: يَوْمٌ.الرابع: أنَّ هذه الأيَّام أيَّام حزن ومكروه، ومثل هذه الأيَّام تسمَّى بالليالي على سبيل الاستعارة؛ كقولهم: خَرَجْنَا لَيَالِيَ الفِتْنَةِ، وجئنا لياليَ إِمَارَة الحَجَّاج.الخامس: أنَّ المراد بها الليالي، وإليه ذهب الأوزاعيُّ وأبو بكر الأصمُّ، وبعض الفقهاء قالوا: إذا انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ، حلَّت للأزواج.قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} متعلق ب {خَبِيرٌ}، وَقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ، و{مَا} يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى {الذي} أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ، وعلى هذين القولين، فلابد من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأَوَّل لا يُحتاجُ إليه، إلا على رأي ضعيفٍ. اهـ. باختصار.
|